معضلة وسائل التواصل الإجتماعي

يُعتبر الجيل الذي نشأ بين حقبتين تارخيتين مهمتين: فترة الحياة قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي  والحياة بعدها؛ هذا الجيل يُعتبر الأقدر على مقارنة الوضعين وعلى دراسة ما آلت إليه الأمور أكثر من الجيل الذي فتح عينيه عليها.

لا ريب أن هذه المنصات أحدثت ثورة غير مسبوقة في دنيا الناس على كافة الأصعدة فهي تساهم في انشار الخير بشكل كبير، كما أنها تساهم كذلك في شيوع الفواحش والأفكار الشاذة بشكل منقطع النظير.

وهي من أبشع ما يشتت تفكير الإنسان في هذا العصر ويصرفه عن التفكير في مصيره وحياته وواقعه، وعن طرح التساؤلات العميقة، يُعدّ إدمان استعمالها بمثابة مخدّر حقيقي للعقل.

فلسفة مواقع التواصل:

وسائل التواصل تُلغي فكرة أن تختار أنت ما تقرؤه بل هي التي تعرض عليك باستمرار ما عليك أن تقرأ

صُمّمت هذه المنصات  لأن يسهل الإدمان عليها، وهي مرتبطة بالإصابة بالقلق والاكتئاب وكذلك الأمراض الجسدية.

ينشر الناس محتوى على هذه الوسائل على أمل أن يحصلوا على تعليقات إيجابية وليزيد من تقديرهم لذاواتهم ومن إحساسهم بالانتماء إلى الدوائر الاجتماعية،  وبإضافة إمكانية حصولهم على مكافئات من هذه المواقع فسنحصل على أناس يتفقدون هذه المنصات باستمرار مرضي.

وعند الاطلاع على ما ينشره الآخرون من محتوى؛ يميل الناس إلى عقد مقارنات من قبيل: "هل أنا أحصل على القدر الكافي من الإعجابات مثل فلان؟ أو: لماذا لم يُعجب فلان بمنشوري، في الوقت الذي أُعجب به آخرون؟ إنهم يبحثون عن القبول من خلال الانترنت كبديل للعلاقات الجادة التي كان بالإمكان أن يُحققوها في واقعهم.

ومن أبرز المصطلحات في هذا الصدد مصطلح "الفومو" الذي هو إختصار لعبارة: "الخوف من أن يفوتك أمر ما" ولهذا المفهوم دور كبير؛ فإذا كان كل الناس يستعملون هاته المنصات وتغيّب عن ذلك أحدهم، فإن الاحتمال كبير أن تفوته نكت واتصالات واستضافات؛ ويمكن لهذا الأمر أن يخلق القلق والاكتئاب. وكذلك عندما يكتشف البعض أنهم قد طردوا من نشاط ما على الانترنت، يمكن لهذا أن يؤثر سلبا على أفكارهم ومشاعرهم وحتى صحتهم.[i]

 

التأثيرات السلبية لمواقع التواصل:

في دراسة بريطانية لعام 2018 قرنت بين استعمال وسائل التواصل مع مشاكل النوم والأرق وهذا ما يسبب الاكتئاب وفقدان الذاكرة وضعف التحصيل الأكاديمي. ويمكن كذلك أن يؤثر على الصحة الجسدية بشكل مباشر؛ إذ أن العلاقة بين الجهاز الهضمي والدماغ يمكن أن تحوّل القلق والاكتئاب إلى غثيان وآلام في الرأس والعضلات وتشنجات.[ii]

هذا على الصعيد الصحي، ولهذه الوسائل تأثيرات شتى على المجتمع والعلاقات والسياسة..وغيرها.

كما أنها طمست معالم الخصوصية في الإنسان فأصبح كلأ مستباحا من طرف الجميع يُشارك الناس كل تفاصيل حياته، ويعرف الناس عنه كل شيء.

هذه الوسائل تقضي بشكل غير مسبوق على التفاعل الإنساني الحقيقي: "بعد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لمدة ثمان سنوات، وصلت إلى قناعة لا تقبل الشك أنها تضرّ بشكل خطير بالعلاقات الإنسانية الطبيعية والصحية. فبغضّ النظر عمّن تكون، الشخصية التي تصوّرها للآخرين عبر الإنترنت من خلال حسابات التواصل الاجتماعي الخاصة بك لن تكون أبداً انعكاساً صادقاً وكاملاً لذاتك الحقيقية... الأمر كله عبارة عن تمثيلية كبيرة زائفة والكل متهم بالاشتراك بها. لو جلست خلف هذه الواجهة المزيفة لمدة كافية، (أو الأسوأ من ذلك، إذا كنت من الجيل الذي وُلد ونشأ خلفها)، فستبدأ بفقدان الاتصال بالواقع. لقد نسي الناس كيفية التفاعل بشكل طبيعي مع بعضهم البعض بدون شاشاتهم التي تعوّدوا الاختباء خلفها. إنه وضع محزن للغاية يكون فيه ذكاؤنا الاجتماعي ونضجنا العاطفي أول الضحايا."[iii]

أفكار:

في هذا العصر أصبح الواحد منا يعيش حياتين بشكل مُتوازٍ؛ النسخة الواقعية لشخصيته بكلّ تفاصيليها ومشاقّها ومسرّاتها، والنسخة الإفتراضة منها بكل تأثيراتها الإيجابية والسلبية، بكل لايكاتها وتعليقاتها ورصدها لتحركات الآخرين وجديدهم وأفكارهم، هذا يخلق لدينا تذبذبا في الشخصية لا محالة، وتشتيتا لم يسبق أن مرّ على تاريخ البشر.

وقد قال أحدهم: " إن كنت ترغب في مشاركة خبر سار، كصور أطفالك التوائم حديثي الولادة، فذلك شيء جميل. يمكنك إرسالها إلى بريدي اﻷلكتروني. صحيح أنني لن أكون أحد هؤلاء الذين سيضعون إعجاباً (لايك) عابراً على ألبوم صورهم على فيسبوك، لكن على اﻷرجح ستكون استجابتي أكثر صدقاً، وسأحتفظ بالجزء اﻷفضل منها إلى الوقت الذي نلتقي فيه شخصياً. وهو شيء لا يمكن أن ينافسه أي قدر من الإعجابات وصور الـ (إيموجي) مهما كثر عددها"[iv].

- العقل لم يُخلق ليتعامل مع هذا الكمّ الهائل من المعلومات الذي يتدفق من كل حدب وصوب، فالكمية الرهيبة من المعلومات التي تُعرض يوميّا، ولو كانت كلها فائدة، تخلق تشويشا ذهنيا رهيبا وتُبعد الإنسان عن قصد عن إدراك مغزى الوجود وعن التفكير في واقعه ومشاكله كأنّه نوع من التخدير.

الأفكار تتحوّل إلى سلوك هذا ما يُفسّر ظهور مختلف أنواع السلوكات لدينا بتبنّي أفكار من هبّ ودبّ بوعي أو دون وعي.

- وعندما تسأل مدمنا على هاته الوسائل بعد تعافيه؛ عن خلاصة تجربته سيقول لك: " تخيلوا إيقاف تشغيل مكنسة كهربائية عالية القدرة بعد استخدامها باستمرار لساعات. ستجد نفسك تكاد تتنفس الصعداء حيث تعود حواسك وأعصابك إلى حالة من الاستقرار بعد تعرضها إلى درجة عالية من التحفيز. هذا هو الإحساس الذي ستشعر به عند قيامك بإلغاء وسائل التواصل الاجتماعي من حياتك، حيث ستتخلص من كمية هائلة من الضوضاء عديمة الفائدة، وتعطي لدماغك فترة راحة هو بأمس الحاجة لها بعد القصف المستمر الطويل الأمد الذي كنت تعرضه له. صدقوني، هي تجربة نعيم لا توصف"[v].

الحلّ للخروج من الأزمة:

Social media detox  - ظهور هذا المصطلح  والذي يعني الابتعاد لفترة معينة عن استعمال هاته الوسائل بهدف التخلص من سمومها، ويكفي اختيار هذا المصطلح بالذات للدلالة على أنّ لهاته الوسائل سموم لا محالة تساوي في تأثيرها أو تفوق السموم الحسية الأخرى.

 - الوعي هو المخرج: على الإنسان أن يستعيد زِمام تحكّمه في حياته فيكون هو الذي يختار ما يسمع وما يرى: "إنّ السمع والبصر والفؤاد..." وعليه أن يعِي أنّ هذه الوسائل هي نوع آخر من أنواع الإدمان فيكون بذلك حذرا عند استعمالها، وعليه أن يحذر أكثر لتعامل أبنائه معها فيكون قدوة لهم بالدرجة الأولى ويتناقش معهم مثل هاته المواضيع وخطورتها لأنّهم جيل فتح أعينه على هذا الواقع.

- توفير المزيد من الوقت للتفاعل الإنساني الحقيقي مع العائلة والأبناء أو الأصدقاء ..

_ التقليل قدر المستطاع وتعويض الوقت الضائع الذي كنت تهدره على النت؛ في الواقع وبالعودة إلى الواقع؛ تفقّد نفسك وأهلك وعالمك ودنياك وآخرتك، أشغل نفسك بواقعك بإنشاء برامج وأعمال ملموسة الأثر.

- الانخراط في الدروس والبرامج والسلاسل التي تزخر بها الانترنت في مقابل مجرّد التسكع الافتراضي.

في الأخير تذكّر أنّ: المسلم لم يُخلق ليَندفع مع التيار فعليه بوقفات في حياته وخلوات تجعله يُعيد ترتيب أوراقه ودفاتره وإعادة النظر في أفكاره بعيدا عن تأثير البوستات واللايكات.

نور يوسف

10-11-2022

 

 

 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة