موضوع الكتابة والتأليف

لماذا نكتب؟
بداية لابدّ وأن يسبق سؤال الكتابة سؤال القراءة، فلو لم يكن الإنسان قارئا لما كان كاتبا. القراءة تسبق الكتابة حتما؛ ونحن إذ نتحدّث عن هذا الموضوع نقف أمام واحدة من أعظم معجزات خلْق الله، ألا وهي هذا الكائن المبهر في تكوينه والمبهر من كلّ جوانبه، وقدرته الفائقة على تعلّم اللغة "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا"، وكذلك معجزة اللسان والكلام والتعبير... فلِكيْ نفهم العمليّة الكتابية علينا أن نستحضر هذا السياق الكامل الذي تحدث فيه، وكيف يمكن لهذا الكائن أن يكتب وأن يفهم وأن يستوعب وأن يقرأ وكيف وكيف؟ علينا أن نزيل عن أعياننا غشاوة التعوّد والتبلّد، عندها فقط نُرجع الأمور إلى نصابها وندرك أن عملية الكتابة ليست مجرّد عمليّة آلية بل هي أمر خارق ومُعجز يُخفي وراءه حكمة وتخطيطا وصُنعا متقنا.
الكتابة في هذا الصدد تنطلق من حاجة إنسانية إلى البوح بأمر ما، أو إلى فهم شيء ما، تبدأ في عقل الإنسان في صورة أفكار متشابكة تكتنزها فوضى عارمة أحيانا، تحتاج إلى مكان تنتظم فيه، هذا المكان هو الورقة والقلم بالطبع. لذلك في كثير من الأحيان نكتب لكي نساعد عقولنا على رؤية الأمور بشكل أوضح، فلعمليّة الإبصار دور مهمّ تلعبه جنبا مع جنب مع ملًكة الخيال. وتساعدنا الكتابة كذلك على تخفيف الحمل من عقولنا وعلى المصالحة مع ذواتنا، وأحيانا تساعدنا على التشافي من أزماتنا. وفي أحايين أخرى تقف اللغة عاجزة عن نقل ما نودّ التعبير عنه.
تتعدّد صور الكتابة بتعدّد أهداف الكتُّاب من الكتابة نفسها، وأجد من بين مجالات الكتابة الملهمة ما يشاركه الناس من خبرات اكتسبوها أو طرقهم الخاصة في التعامل مع عقبات واجهوها.. فعقل الإنسان وروحه كنْزُ في هذا الصدد ومقدرة الإنسان على التجاوز أو التأقلم عجيبة كذلك، أذكر في هذا السياق كتاب الروائية المصرية أروى عاشور الذي تحكي فيه فيما تحكي تجربتها في مصارعة مرض السرطان وتُضفي على الكتاب كلّه روحها التهكّمية المرحة بطريقة تشكّ معها أنها بصدد مواجهة مرض عضال. ومن صور الكتابة الملهمة أيضا تلك الروايات التي صِيغت بحُبكة من أجل هدف سامٍ كأن تُسوّد صورة الإثم في نفس الإنسان فلا يجرؤ على التقرّب منه أبدا.
ممّا لاحظته كذلك أنّ الكتابة الصادقة العفوية تُظهر شخصية الإنسان بشكل أقرب إلى الوضوح، إن كان صارما أو مرحا أو غاضبا...
ومن الأمور التي أراها من مقوّمات الكتابة الموضوعية؛ أن لا يكتب الإنسان ما ينوي نشره وهو في حالة غضب أو فرح شديد أو حزن شديد أو من غير تثبّت، فلابدّ من التريّث ومراجعة ما كُتِب مرّات ومرّات قبل النشر فالكتابة مسؤولية قبل كلّ شيء و"كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ" ولذلك تجد معشرا من الكُتّاب يُفضّل نشر أعماله بعد سنين من العمل المتواصل والدؤوب لتخرج مؤلّفاتهم بعد ذلك تحوي عصارة تركيزهم وبحثهم.
في الأخير، لابُدّ أن نوقن أنّ الكتابة مسؤولية كما ذكرت وأن ننويَ بها البناء لا الهدم والنفع لا الإفساد، ونصرة الحق في وجه الباطل لأنّ ما كُتِب ونُشر لا يمكن استرجاعه. فللكلمات البنّاءة سحرها الخاص في النفوس كشجرة طيّبة تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها، وللكلمات الهدّامة تأثيرها البالغ السلبي على النفس البشرية. ولابدّ كذلك للكاتب أن يتحلّى بروح التواضع مهما بلغ مستواه ويحترم عقل وروح مخاطبيه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة